كيف كانت تجربتك مع المدارس العربية؟؟ فيما يلي سأذكر لك تجربتي مع العنف في المدارس العربية
لا أعلم لماذا تذكرت كل هذا؟! ليس بعد كل هذه السنوات، خليط من المشاعر بين ضحك وحزن، ابتسامة ودموع تفيض أحاول امساكها وتتسلل بين جفوني، أراد دماغي عرض شريط طفولتي قبل النوم، بعد أن مررت على فيديو بعنوان “لماذا فنلندا لديها أفضل تعليم في العالم؟!”
وتذكرّت ما تعرّضنا له من عنف في المدارس العربية …
أذكر جيدا تفاصيل أول يوم لي في مدرستي الابتدائية، الساحة، الأقسام، الإدارة، المراحيض… كان لدي أربع سنوات عندما دخلت لذلك القسم أول مرة، كان القسم مكتظا
جدا وجلست مع طفلين آخرين بدا كل منهما عملاقا بالنسبة لي، لأنهما كانا يكبراني بسنتين، في طاولة يفترض أنها تحمل اثنين فقط، جلست لأربع ساعات على حديدة باردة،
ولا أفهم مالذي أتى بي إلى هنا…
كان المعلم يشبه أحد الشخصيات الشريرة في مسلسل كرتوني أتابعه، أعطاني ورقة لأشتري الأدوات، عدت فرحا من المدرسة واشترى لي أبي حقيبة وأدوات…
اليوم الثاني شعرت أنني اعتدت الوضع، ومجرد قال المعلم كلمة بدأت أضحك في وجهه، فأتى مسرعا يحمل عصا وضربني بجانبها على صدري، لم أتمالك نفسي بدأت في الصراخ والبكاء من الألم ومع تهديده لي بأن أصمت أنزلت رأسي على الطاولة وكتمت صوتي … عدت للبيت وقلت لأبي لن أعود للمدرسة مجددا.
توقفت عن الدراسة حينها، بحجة صغر سني، وعدت بعد سنة أخرى لنفس المدرسة، ونفس القسم، لكن الوضع صار مختلف قليلا، فهذه المرة لا أجلس على حديدة، كان هناك مقعد، وتغير المعلم الشرير، برجل يبدو أكثر حنانا، ويكرر منذ دخلنا “ياااا سلاااام ياااا سلاااام” …
لكن سرعان ما تغيّر ذلك السلام إلى إبداع واحتراف في ممارسة أنواع العنف ضد أطفال لم يتجاوز أعمارهم ست سنوات، فعوض أن أتساءل كل صباح قبل قدومي للمدرسة مالذي سأتعلمه اليوم كان كل اهتمامي كيف يمّر يوم دون أن أتعرض للضرب أو الصراخ، أو حتى إذا تعرضت له يكون رحيما.
يضحكني الآن كمية الابداع والتفاني الذي سخره المعلمون لعقابنا واخضاعنا وكيف كنا نتأقلم معها ونتحايل معها ونحن أطفال، ويحزنني كمية العمل الذي كان علي القيام به لتجاوز العقد النفسية التي ورثونا إياها، نعم فهي لم تكن مدرسة فقط كانت مركز لتوريث المعاناة والألم والعنف.
لم يكن المعلم يهتم فقط بشؤون القسم بل تجاوز ذلك، ليحاسبنا على ما نفعل في البيت والشارع، وما يؤسفني أنّه صار علينا كي نتجاوز الضرب كان أحدنا يبيع صديقه ويخبر
المعلم أنه كان يلعب الكرة أو كان يلعب في الشارع…، وكنا نتسابق للوشاية ببعضنا، وأكثر ما يحرجني تذكره، أنّه كانت لدي زميلة اسمها أمينة لم نسمع صوتها طول السنة، مررت عليها في الشارع وجدتها تصرخ، وفي الصباح الباكر قبل أن يبدأ الدرس ذهبت بسرعة للمعلم وقلت له ” سيدي البارحة مررت على أمينة وجدتها تصرخ في الشارع وهي هنا لا تتحددث ولا تجيب على أسئلتك” ناداها وصرخ في وجهها، لم أشعر بالندم حينها لأن هذا كان ميكانيزم البقاء والأمان في القسم أوشي بك قبل أن توشي بي.
كان المعلمون خبيرين في أساليب العقاب والتي يحق لي تسميتها بأساليب التعذيب النفسية والجسدية، بمجرد دخولك للمدرسة تسمع صوت عواء الأطفال من الأقسام بسبب الضرب، كان من أبرز الأساليب الجسدية الضرب بالعصا أو أنبوب الغاز في ما تيسر له من جسدك، والصفع في الوجه بأنواعه، أو تقنية “الرفع فوق الطاولة” وهي أن يمسكك زميليك كل واحد من يد ويشدك إلى الطاولة والمعلم يضربك بالعصا أو الأنبوب في المؤخرة، أو “الفلاقة” وهي أن يتم ضربك بالعصا أو الأنبوب في رجلك لكن التعرض لها كان منخفض ويلجأ لها المعلم فقط في الحالات الحرجة بسبب الوقت الذي تأخذه ورائحة الجوارب التي تسيل دموع المعلم، القرص في الأذن، الضغط على الرأس،
الضرب بالعصا على الأصابع في وجه اليد أو ظهرها، ولا ننسى طبعا في حالة غضب المعلم يصبح كل شيء مباح قد يحملك ويرميك أو يضرب لك رأسك على السبورة أو يركلك بكل قوته لتطير مع خفة وزنك، وقد طورنا أساليب للتعامل مع العنف منها أن نضع الكرتون تحت السروال كي لا تؤلمنا تقنية “الرفع فوق الطاولة” أو نكثر السراويل في حال لم نحفظ الدروس، لكنه مع ذلك لم تكن تنطلي عليه حيلنا وكان ينزع الكرتون بعد سماعه أو يجردنا من الملابس كي نشعر بأكبر قدر من الألم.
أما العنف النفسي واللفظي فكان أشد، الإهانة بكل الأنواع والزوايا، والحيوانات التي تعلمناها من خلال إلصاق كل واحد ونعته بها، والصفات والأفعال، كان أشدها عندما
تعرض أحد التلاميذ من الأقسام المجاورة وقاموا بتعريته بسبب أنه شتم أمام المعلم، وكذلك التخويف بأنواعه والتهديد بالصعق بالكهرباء أو الكي بالنار…
ومن الأشياء العجيبة في الاخضاع أنّنا كنا نختار للمعلم العصا التي سيضربنا بها، ونحضرها له من الشارع فرحين بها وبصلابتها، وهو كان يطلق عليها ألقاب مثل ” مسعودة أو
سعيدة ” وكان يعتني بها أكثر منا، يغلفها بالشريط اللاصق، ويرسم عليها ويلونها، أو يلصق عصا بالأنبوب، وكل مرة يختار نوعية العصا من النخل أو قطع الخشب…
أمّا أسباب الضرب فلم تكن محددة، فقد كان المعلم يحضر مشاكله الخارجية إلى القسم وكان الأطفال أداة لتفريغ الغضب الظاهر من عينيه ووجهه، إضافة إلى الواجبات والتمارين التي لم نحلها.
رغم هذا ورغم أن المدرسة ارتبطت لنا بالعقاب والعنف والضرب الذي لن يكفي كتاب لإحصائها والحديث عنها، قضيت وقت ممتع جدا كطفل يعيش مغامرات للبقاء، وممتن كل الامتنان على حصص الرقص التي كان يطبل لنا فيها المعلم ونحن نخرج للرقص وكنت أغني لهم “طلّ السباح حولك علوش“.
Comments 1