كسول أنت ؟
وأخيرا جاءت عطلة الشتاء التي انتظرتها بفارغ الصبر، دخلت البيت مسرعا وتوجهت لأقرب مدفأة كي تدفئ أناملك التي فقدت الشعور بها بسبب الجو العاصف البارد، وأنت تفكر في منطقة استراتيجية تستلقي فيها طول العطلة، حتى لاحظت الزاوية المقابلة للمدفأة وأسرعت إليها قبل يستولي عليها أخوك وتتشاجرا عليها كما فعلتما السنة الماضية، جهزت حاسوبك وكلك شوق وحماس للعشرين فيلم ومسلسل التي انتظرت مشاهدتها طوال الأشهر الماضية، استلقيت وتغطيت وامسكت الحاسوب وبدأت في المشاهدة حتى تذكرت أنك تركت الانارة!!، نعم… أسوأ شعور ممكن تتعرض له، فبدأت تصرخ وتطلب النجدة “آآآآآآ…..” حضرت أختك مسرعة وملامح الهول في وجهها، فنظرت إليها
بشفقة وترجوتها أن تسامحك وتطفئ الانارة…
وهكذا مرّت العطلة… كانت الخطوات الوحيدة التي تقوم بها هي الذهاب للحمام، وفي ليلتك الأخيرة شعرت بالأسى مع نهاية العطلة وتمنيت لو كانت حياتك كلها هكذا “السهر، الأفلام والمسلسلات، والنوم والكسل أحلى من العسل” وتمنيت لو أنك كنت حيوان بخ البحر، يولد هذا الحيوان البحري بجهاز عصبي ودماغ ويبحث عن أقرب حجر أو مكان مناسب، ويتثبت عليه لبقية حياته، وبعد مدة يعتبر دماغه وجهازه العصبي مصدر للطاقة ويتغذى عليه ويعيش بدونها… حياة مليئة بالكسل والعسل والهدوء…تأثير الرياضة على الصحة النفسية:
لكن هل هذه الحياة هي ما سيجعلنا سعداء حقا؟؟ وبراحة نفسية؟؟ وجسمية؟ما تأثير الكسل على الصحة النفسية؟؟ أو بالأحرى ما تأثير الرياضة الذي نتجاهله جميعا ونتكاسل عليها ودورها الرئيسي على الدماغ والصحة النفسية؟؟!
يقول الدكتور مارك تونوبولسكي في مجلة التايمز
“إذا كان هناك دواء يقوم بتعويض التمارين الرياضية والفائدة التي يدرها على الجسم، فسيصبح هذا الدواء أغلى دواء تم إنتاجه…”
جميعنا سمعنا عن تأثير الرياضة على الجسم، والقلب والأوعية الدموية ونمو العضلات، لكن ما تأثيرها على المزاج؟ ما تأثيرها على الدماغ وصحة الجهاز العصبي؟؟
لماذا نمتلك أدمغة؟
قبل أن نجيب على هذه الأسئلة هناك سؤال مهم جدا، علينا التطرق له، ما فائدة الدماغ؟؟ لماذا نمتلك أدمغة؟؟ آآآ نعم يبدو سؤال أحمق وغبي… وإجابتك هي أنّ المخ من أهم الأعضاء في الجسم وهو المسؤول عن الوعي والتفكير وتنظيم عمل أعضاء الجسم والتنسيق بينها والحركة والاحساس … لكن هذه لم تكن إجابة عالم الأعصاب الشهير دانيال وولبارت في خطاب له على منصة TEDTalk، فحسب نظره الغاية الحقيقية من وجود أدمغة لدينا ولباقي الحيوانات هي إنشاء وتعديل “الحركة” فقط، ذلك أنّ الحركات التي تبدو لك عادية كحركة أصابعك تعتبر من أعقد ما يكون حتى الروبوتات الحديثة بالكاد تستطيع محاكاتها، وباقي مهام الدماغ التي حددتها أنت هي نتيجة لتطور مراكز الحركة وتنظيمها في الجهاز العصبي كمختلف الحواس والذاكرة … وحجته على ذلك حيوان بخ البحر الذي تمنيت أن تصبح مثله، عندما يتثبت بخ البحر في مكان مناسب يقضي عليه بقية حياته يتغذى بعدها على جهازه العصبي لأنّه فقد الحاجة لاستعماله، كذلك حيوان الكوالا الكسول الشهير يعيش على شجرة الكينا والتي طوّر جهازه الهضمي كي يأخذ ما يحتاجه من مغذيات من أوراقها فقط، يأكل وينام ويتزاوج ويقضي حاجته فيها على عكسك أنت تحتاج لبضع خطوات كي تذهب للحمام، يمتلك الكوالا دماغ صغير جدا والذي فقد الكثير من وزنه مع تطوره لآلاف السنوات بسبب عدم حاجته للحركة والقيام بمجهود حركي عالي …
مادام تطورت أدمغتنا لتوفير حركات عالية الدقة بشكل منسجم ومتناسق، كيف تستطيع الحركة والمجهود العضلي أو ما نسميه الرياضة التأثير على أدمغتنا وتجعله يتطور؟؟ كيف تؤثر الرياضة على المزاج والصحة النفسية؟؟
أسباب الإصابة بالأمراض النفسية:
يرجع الباحثون الاصابة بالأمراض النفسية إلى عدة عوامل مرضية تصيب الجسم والدماغ ككل فتؤثر على الصحة النفسية والجسمية، أهمها: الالتهابات وهي استجابة الجسم من خلال الخلايا المناعية لأي مرض أو عنصر خارجي، خلل في الليونة العصبية وهي قدرة الدماغ على التأقلم والتغير مع الظروف الخارجية، التوتر المؤكسد وهو ارتفاع معدل الجذور الحرة التي تؤدي إلى الالتهابات وتدمير الخلايا، وخلل في النواقل العصبية وهي الهرمونات المسؤولة عن نقل الرسائل العصبية في الجهاز العصبي كالسيروتونين والدوبامين والأدرينالين… اجتماع هذه العوامل أو تراكم وتزايد أحدها يؤدي إلى خلل في وظيفة الدماغ وبالتالي الاصابة بأمراض نفسية كالاكتئاب والخوف والقلق المزمن والشيزوفرينيا واضطراب ثنائي القطب وحتى الألزهايمر …
تأثير الرياضة على الصحة النفسية:
من خلال الدراسات الأخيرة التي تبحث في تأثير الرياضة على الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية وصحة الجسم وجد علاقة بين الرياضة والعوامل المذكورة في الأعلى بحيث تقوم التمارين بالتأثير سلبا على هذه العوامل أو حتى إلغائها وبالتالي الحفاظ على سلامة الدماغ والوقاية من الأمراض…
ففي دراسة ضخمة سنة2002 من خلال تحليل بيانات 13748 شخص فوق سن العشرين وتتبعهم لمدة ست سنوات، بحثت في الإجابة على السؤال هل تخفض الرياضة الالتهابات؟؟ وجد الباحثون انخفاض عوامل الالتهاب في الجسم كعامل الCRP لدى الرياضيين، ودراسات أخرى أثبتت انخفاض عوامل الالتهاب بعد حصة رياضية واحدة وارتفاع مضادات الالتهاب…
ودراسة أخرى سنة 2007من كلية الأعصاب من جامعة ميونستر الألمانية ودراسات عديدة بعدها، وجد ارتفاع في معدلات الBDNF بنسبة 30% بعد أسبوعين من ممارسة الرياضة بشكل منتظم، هذا الهرمون مسؤول عن تجديد الأعصاب وإصلاحها ونموها، وبالتالي التمارين الرياضية ساعدت على تحسين الليونة العصبية، كذلك لوحظ تحسين في نمو الخلايا العصبية لمركز عنخ آمون أو الهيبوكامبس في الدماغ المسؤول عن الذاكرة والتعلم، كما أثبتت كلية كاليفورنيا للتعليم أن التلاميذ ذوي اللياقة العالية يتحصلون على علامات أعلى مقارنة بغيرهم نظرا لتأثير الرياضة على التحصيل والتعلم…
أما تأثير الرياضة على النواقل العصبية في دراسات وجدت ارتفاع معدلات السيروتونين في الدم وارتفاع مستقبلات ونواقل السيروتونين في الدماغ ، كذلك ارتفاع معدلات التريبتوفان في الدم وهو المادة الأولية لتركيب السيروتونين حسب دراسة كندية سنة 2012، ولوحظ أيضا إرتفاع معدلات الدوبامين الهرمون المسؤول عن التحفيز والحماس والانجاز ومستقبلاته في الدماغ وحساسيتها له، وارتفاع في هرمون النورأدرينالين، وهي الهرمونات المسؤولة عن عمل الدماغ ويتعلق انخفاضها بالاكتئاب والقلق والشيزوفرينيا…
والدراسات التي عالجت التأثير المباشر للرياضة على الاكتئاب والقلق منها دراسة سنة 2011 من جامعة جنوبكاليفورنيا أنّ تأثير الرياضة يمكن أن يكون اقتراح أولي لعلاج الاكتئاب الخفيف والمتوسط مقارنة بالأدوية، وأخرى سنة 2012 من مركز الأبحاث الابديميولوجي بفرنسا التأثير المتبادل بين الرياضة والاكتئاب والقلق وجد أن التمارين الرياضية المنتظمة تخفض من أعراض القلق والاكتئاب…
يرجع السبب وراء تأثير الرياضة القوي على الدماغ هو أنّه عند الحركة ارتبط لدى الدماغ أن هناك شيء مهم يحصل ربما خطر أو تهديد عليه الحذر منه هذا يجعله في حالة تأهب وتركيز وصحوة، ولأنك تتحرك إما هربا من حيوان ضار أو بحثا عن الطعام أو لتذكر الطريق وسط الغابات والصحاري كي لا تتوه هذا يجعل الدماغ في حالة تركيز شديدة كي لا يتعرض لأي خطر …
وبمجرد جلوسك للراحة بعد مجهود عضلي يشعر الدماغ أنّ التهديد زال فيعطيك شعور بالأمان والراحة والسكينة وكأنك تجاوزت كل المخاطر والمشقات وعليك أن ترتاح كي تعطي الجسم الفرصة للمعافاة … وهذا كان تطوريا أهم سبب بقائنا …
تأثير النوم على الصحة النفسية:
الآن وبعد أن عرضنا دور الحركة والرياضة في تحسين المزاج، ماذا عن تأثير النوم؟ كيف أثّر سهرك لليالي كي تراجع للاختبار أو سهرك لمشاهدة المسلسلات، هذا الروتين الذي نعيشه في هذا العصر؟؟ هل يمكن أن يكون سهرك المستمر أحد الأسباب الرئيسية لإصابتك بالاكتئاب؟؟
في دراسات حيوانية، تم حرمان فئران من النوم لأيام فلوحظ ارتفاع ملحوظ في عوامل الالتهاب كالCRP، IL6، TNF… هذه العوامل لها تأثير معاكس على النوم وزيادتها تؤدي إلى اضطرابات في النوم، كذلك لوحظ بعد حرمان حيوانات من النوم لمدة ثمانية أيام قلة تحسس مستقبلات السيروتونين لهذا الهرمون وهذا مسؤول على زيادة أعراض الاكتئاب والقلق، وفي دراسة سنة 2011 بكلية العلوم العصبية بجامعة جرونينجين الهولندية على الفئران وجد الباحثون بعد أن تمّ تخفيض ساعات نوم الفئران لمدة شهر تقلص نقصان في حجم المركز المسؤول عن الذاكرة والتعلّم المسمى بعنخ آمون أو الهيبوكامبس وهذا يؤدي إلى صعوبة شديدة في التعلم والتذكر، فالحرمان من النوم يضعف كفاءة الدماغ في التركيز والتعلم والتذكر بنسبة 40%…
كما تلاحظت… الأمراض النفسية تتأثر بعدة عوامل وتحسين حالتك المزاجية والزيادة في مردوديتك وإنتاجك وحماسك نحو الحياة وتحقيق أهدافك يتطلب تغيير شامل لنظام حياتك من الأكل الصحي والرياضة والنوم والتعرض لضوء الشمس بشكل منتظم والتأمل وغيرها من العوامل التي باجتماعها معا تحافظ على صحتك النفسية والجسمية.
تابع هذا المقال إذا أردت معرفة تأثير الغذاء على النفسية والدماغ