Table of Contents
مالسبب الذي يجعلنا نفقد السيطرة على افكارنا ونصاب بفرط التفكير ونصبح سجناء داخل عقولنا؟
1. قصّة
كانت سنة شاقة جدا…لا أصدق أنني مازلت في عقلي بعد كل الضغط الذي تعرضت له والتوتر الذي كان يلاحقني من الاختبارات والدروس المضغوطة والمكثفة التي تحبسنا، ولشدة ما كنت مقيد وضعت برنامج ضخم من الأعمال
والكتب والكورسات والأفلام الوثائقية التي حرمت من مشاهدتها بسبب الدراسة والاختبارات لكنني كنت على يقين بأنّ عطلة شهر لن تشفي غليلي ولن تكون كافية لانجاز فقط ربع الأعمال التي خططت لها…
أردت أن أنضبط وأعمل بجد كي أستطيع الانجاز أكثر، ومن كثرة ما لحق بي من انهاك وتعب فقدت كل تركيزي وصرت كالهائم والتائه الذي ضل طريق عودته بعد رحلة طويلة…
نادتني أمي لقضاء بعض الحاجيات، حاولت التركيز جيدا كي لا أنسى الخمس طلبات وأصريت أن لا تكتبهم لي لأني لم أفقد ذاكرتي بعد، وفي طريق عودتي للبيت بعد أن أنهيت كل الحاجيات أضعت المبلغ المتبقي والذي يكفي لقضاء حاجيات يوم من الخضر والفواكه، ومجرد دخلت للبيت ناديت أمي و أخبرتها أن لدي خبرين جيد وسيء، قالت:خير …فأجبت أما الخبر السيء فقد خسرت أنت الرهان وأحضرت لك كل الحاجيات واستطعت تذكرها جميعا، وأما الخبر الجيد فقد أضعت المبلغ المتبقي …
في الليل اتصل بي خالي وطلب مني أن أحضر له تحاليله من المخبر لأنه لا يستطيع الحضور، وبعد أن استيقظت صباحا أخذت الوصل الذي تركه لي وتأكدت من وضعه في جيبي وما إن وصلت لموقف الحافلات وضعت يدي في جيبي للتأكد من الوصل حتى اكتشفت أنني أضعته، لا أعلم ما حل بي هذه الأيام والحمد لله بعد أن وصلت للمخبر وشرحت للممرضة الموقف أخبرتني أنه يمكنها تسليمي نتيجة التحاليل …
في اليوم الذي يليه وجدت بالصدفة سوار من الكريستال ثمين قد حصل عليه أخي هدية وقلت أجربه فوضعته ونسيته في يدي، وأثناء تغييري للقميص سحبته بقوة فتقطع وتناثرت كل الأحجار على الأرض وكان علي أن أحضر اعتذار جدي ورسمي لأخي كي لا يقتلني…
فقدت السيطرة تماما على تركيزي وتدفقت الأفكار في عقلي دون أي حواجز وبدوت شارد الذهن جدا، شعرت وكأنني في عالم آخر كالحلم أو كأنّ كيان آخر كان يتولى القيادة عني وكنت مجرد متابع لما يحدث دون أن أشعر بوجودي أو حضوري، وتطلبني الأمر عدة أيام كي أدرك أن هذه الحالة تسمى فرط التفكير وهي أحد الأعراض الشائعة للتوتر والاكتئاب والتي تسيطر على أكثر من نصف سكان العالم دون أن يعرفوا سبب فرط التفكير هذا …
2. فرط التفكير ونشأة الذهن
هناك صوت ينشأ داخلك وأنت تحدث نفسك، أنت تشعر أن ما تفكر فيه مستقل عن العالم الخارجي حيث يمكنك التعبير والتحدث بحرية بينك وبين نفسك دون أن تخاف من أن يسمعك أحد أو يعرف خططك المجنونة أو الشريرة، والأهم من هذا أنك تستطيع تخيل أي شيء تريده وتعطيه صور وأصوات وحتى ملمس وذوق ورائحة دون أن تتفاعل معه في الواقع، وتذكر أحداث حصلت لك قديما بتفاصيلها وكأنك عشتها من جديد أو تتوقع أحداث في المستقبل ومشاعرك اتجاهها حتى دون أن تحدث، لكن هل تساءلت يوما من أين نشأ هذا الصوت؟؟ وكيف تستطيع تخيل الأحداث ؟؟ وما علاقة هذا بكل الألم والخوف والاكتئاب والحزن والمعاناة التي حدثت في حياتك؟؟ وهل نحن حقا نعيش في وهم ؟؟ هل يمكن أن يكون أكثر شيء وثقت فيه وسلمته حياتك هو أكبر وألد عدو لك وهو الذي يغذي فرط التفكير لديك ؟؟ والأهم من هذا هل يمكن أن تكون طوال هذه العقود التي عشتها كنت تعرّف نفسك بصور ومفاهيم حتى تكتشف في النهاية أنه تم خداعك وأنك كنت مسير وتظن أنك كنت سيد قرارك ؟؟ومن أين ينشأ فرط التفكير؟
أظن أنك لم تنتبه يا صديقي أنك يوما ما كنت مجرد فكرة، فكرة أبت إلا أن تتحقق وتتجسد في أرض الواقع من خلال مشروع ناجح أسسه والديك، وكان رحم أمك بمثابة النعيم والجنان بالنسبة لك حيث كنت تحصل على كل ما تحتاجه من أكسجين وماء وغذاء وحرارة مناسبة وحماية دون أي مجهود منك، حتى أتى اليوم الذي هبطت فيه لهذا العالم الغريب المليء بالضجة وكان عليك الاعتماد على نفسك للحصول على الاكسجين واعتمد بقاؤك بشكل كلي على حماية والديك وتوفيرهما الغذاء لك، لقد كان هذا العالم الجديد غريبا لدرجة أنك لم تستوعب شيئا، ليس العالم فحسب بل هذا الزي الذي تلبسه[جسدك] والذي كان بالنسبة لك كمن وجد في العصور الوسطى سيارة كان عليه تشغيلها وقيادتها دون أن يعرف أي شيء عن مهارات القيادة أو حتى يرى سيارات تتحرك من قبل…
ورغم صعوبة وغرابة كل شيء كان حولك إلا أنّ رغبتك في العيش كانت أقوى من كل شيء وحاربت من أجل التأقلم والبقاء وبدأت تعلم التحكم في هذا الجسم، ولأن بقاءك كان معتمد بشكل كلي على تعلمك احتجت مساحة تخزين لتركب فيها تجاربك كي لا تعيد الخطأ مرتين وتتقدم بسرعة في تعلم أي جديد…
تطورت ذاكرتك فيما بعد وبدأت تتعلم اللغة التي سهلت لك التواصل مع والديك وغيرك والتي أصبحت تمثل العالم المجرد الذي كنت تراه في شكل رموز وأصوات، و صرت تربط ما تراه في العالم الخارجي بأصوات تخرج من فمك وأصبح مصدر الرعاية الدائمة يرمز له ب”ماما” ومصدر الأمان والمرح يسمى “بابا” ومصدر اللعب يسمى “أحمد” أخوك ومصدر العض والعناق يسمى “سناء” أختك وتحسنت مهارتك في الربط وصرت تسمي قضاء حاجتك والأمور التي تحيط بك من تلفاز ولوحة تحكم وفراش وحليب وبطاطا وحلوى وخزنت كل هذه الأشياء في ذاكرتك على شكل صور وأصوات وصار بامكانك استرجاعها بسهولة، حتى جاء اليوم الذي كسرت فيه الطبق الثمين لأمك واستطعت التنبؤ بالعقاب الذي ينتظرك وشعرت بالخوف وعندما سألتك أمك عن الفاعل أخبرتها أنها “سناء” ….
في هذا اليوم بالضبط بدأت تدرك أنه يمكنك خلق مفاهيم في رأسك مستقلة عن العالم الخارجي أو بالأحرى صار يمكن لدماغك أن يتوقع ما سيحصل بناء على تجارب الماضي وتنبأت بالعقاب الذي ينتظرك وتصرفت على هذا الأساس ومن هنا نشأ التفكير لديك، أي أنه حصل الفصل بين دماغك”عالمك الداخلي” الذي أصبحت الوحيد الذي يدركه وبين العالم الخارجي وأعطيت أحداث منافية للواقع بناء على أفكارك، فبعد أن كنت مجرد متلقي للمعلومات والاحداث الخارجية صرت الان تخزنها تحللها وتعيد صياغتها وتتنبأ من خلالها بالمستقبل وهذه العملية برمتها مسؤول عنها ما يسمى بالذهن أو the Mind.
مع الوقت بدأ ذهنك في النضوج وباشرت في تكوين مفاهيم وآراء عن الحياة والواقع من خلال الأسرة والمجتمع الذي كان مصدرك الوحيد للمعلومات ومع اقتراب فترة المراهقة إضافة إلى التلقين الذي تعرضت له، صار كل شيء بديهي ودخلت في العادة أي أن كل شيء أصبح له مثيل في ذاكرتك وصرت تكرر التجارب فقط ومن هنا بدأت كل المشاكل النفسية في حياتك…
لقد كان “الذهن” أهم عامل لبقائنا ولتطورنا كبشر، فبعد أن استطعنا تكوين ذاكرة واستعمالها وتحويل ما نراه في الواقع إلى صور في أذهاننا أدى هذا إلى اختراعنا للرمز ثم الكتابة وصار يمكن بعدها تخزين ونقل المعلومات للأجيال القادمة، لكن المشكل الذي وقع منذ ذلك الحين والذي حرص كل الحكماء الكبار والمتنويرين والأنبياء برسالاتهم على تحذيرنا منه هو أن لا نستطيع التمييز بين الرمز والواقع…
3. أنت والأصوات داخلك
أعلم يا صديقي أن الأمر اختلط عليك لكن دعني أشرح لك ببساطة ما حدث لك، تخيل معي أنك في غرفتك نهاية الأسبوع وحدك في البيت دون أي ازعاج وقررت مشاهدة آخر فيلم رعب عرض في السينما، تطفئ الأنوار يصبح ضوء الشاشة هو الضوء الوحيد في الغرفة وتغوص في أحداث الفيلم لتلاحظ أن قلبك بدأ ينبض بقوة ومشاعر الخوف بدأت تسيطر عليك وتتفاعل مع الفيلم وأحداثه وكأنك أحد شخصياته الرئيسية وعندما ينتهي الفيلم تكتشف أن ساعتين قد مرت كلمح البصر وتنظر حولك لتكتشف أنك جالس في غرفتك ولست مع شخصيات الفيلم، لقد نسيت لوهلة أنك تشاهد وأنك مستقل على الأحداث والأهم من هذا لم تكتشف الخدعة الكبيرة التي تعرضت لها،
أنك كنت تشاهد مجرد نقاط ملونة “بيكسل” والتي باجتماعها مع بعض استطاعت ان توهمك أن هناك عالم خلفها بل وأنها الحقيقة بعينها…
4. الذهن وفرط التفكير
هذا يعني يا صديقي أنك لم تعد تستطيع التفريق بين الأفكار التي تعرض في دماغك على شكل صور وأصوات داخلية والتي تمثل التلفاز في مثالنا وبين الواقع والعالم الخارجي المرتبط بحواسك والذي يمثل الممثلين الحقيقيين خلف الشاشة ويتصف بالتغير وعدم الثبات…
يقول أحد الحكماء” في اليوم الذي تخبر فيه الطفل هذا طائر سيتوقف عن رؤيته بعد هذا” ورغم غرابة المثال إلا أنّه قصد أننا عندما نصبغ الواقع بلغة ونعطيها صورا في أدمغتنا ونقول هذا قط وهذا فأر وهذا سيء وهذا مطر نحن نرسم صورا ونخزنها في ذاكرتنا ويصبح اتصالنا بعدها بالذاكرة وليس بالواقع ومنها تحدث الألفة والاعتياد، يقول واين داير في كتابه (سوف تراه عندما تؤمن به) ” إن كلمة مطر لن تصيبك بالبلل وكلمة ماء لن تروي عطشك” يعني أن الكلمة هي الرمز، والمعنى الذي تصفه الكلمة هو الواقع والحقيقة، لكن المشكل أنك صرت لا تفرق بين الصور والواقع بين أفكارك والتجربة الحسية الحقيقية، ومن هنا تبدأ في الغرق داخل دماغك وأفكارك ويتصرف دماغك بطريقة عشوائية ليأخذ معلومات وتجارب من الذاكرة ويتوقع لك ما سيحدث لك في المستقبل لأن هذه هي مهمته …
ولأنك لا تستطيع التفريق بين الفكرة العشوائية وبين التجربة الحسية الواقعية ستتبع كل فكرة مقترحة على أساس أنها حقيقة ويستطيع دماغك السيطرة عليك والعبث بمشاعرك دون علم منك وتركض خلف كل فكرة جديدة كالحمار والجزرة، ويمر عمرك القصير بين فكرة وأخرى لتتحول الأفكار التي تتكرر لديك إلى أصوات داخلية تسمعها كل مرة وتملي عليك ما يجب فعله وما لا يجب فعله على أساس أنها تتكلم باسمك وفي الكثير من الأحيان يفقد الناس السيطرة تماما على هذه الأصوات ويصابون بالشيزوفرينيا أو الفصام أو اكتئاب وقلق حادين ينتهي بهم إلى الانتحار …
فما وسائل الذهن للسيطرة علينا؟؟ وكيف نستطيع التفريق بين ما نراه في الواقع وبين الأفكار الوهيمة؟؟ وما الشخصيات التي يستعملها ذهنك لمخاطباتك؟؟ وكيف تستطيع السيطرة عليه؟؟ وما علاقة الذهن بما تحدثت عنه كل الديانات السماوية حول الشيطان الوسوسة وأي رابط بينها؟؟وإلى أي حد يمكن أن يصل فرط التفكير؟